فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومع ذلك لم يعتبروا ولم يعترفوا لرسول الله بأنه مُؤيَّد من الله، وأنه تعالى لن يتخلى عن رسوله، ولن يدعه لهم يخادعونه ويغشُّونه، وهذه سوابق تكررتْ منهم مرات عِدّة، ومع ذلك لم ينتهوا عما هم فيه من النفاق، ولم يُخلِصوا الإيمان لله.
وبعد هذا كله يوصي الحق تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُبقِي عليهم، وألاَّ يرمي طوبتهم لعل وعسى، فيقول عز وجل: {قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول}.
وكأنه تعالى لا يريد أنْ يُغلق الباب دونهم، فيعطيهم الفرصة: جَدِّدوا طاعة لله، وجَدِّدوا طاعة لرسوله، واستدركوا الأمر؛ ذلك لأنهم عباده وخَلْقه.
وكما ورد في الحديث الشريف: «لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم وقع على بعيره وقد أضله في فلاة».
ونلحظ في هذه الآية تكرار الأمر أطيعوا {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [النور: 54] وفي آيات أخرى يأتي الأمر مرة واحدة، كما في الآية السابقة: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} [النور: 52]، وفي {أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 20] وفي {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] أي: أن طاعتهما واحدة.
قالوا: لأن القرآن ليس كتابَ أحكام فحسب كالكتب السابقة، إنما هو كتاب إعجاز، والأصل فيه أنه مُعْجز، ومع ذلك أدخل فيه بعض الأصول والأحكام، وترك البعض الآخر لبيان الرسول وتوضيحه في الحديث الشريف، وجعل له صلى الله عليه وسلم حقًا في التشريع بنصِّ القرآن: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7].
والقرآن حين يُورد الأحكام يوردها إجمالًا ثم يُفصِّلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالصلاة مثلًا أمر بها الحق تبارك وتعالى وفرضها، لكن تفصيلها جاء في السنة النوبية المطهرة، فإنْ أردتَ التفصيل فانظر في السنة.
كالذي يقول: إذا غاب الموظف عن عمله خمسة عشر يومًا يُفصَل، مع أن الدستور لم ينص على هذا، نقول: لكن في الدستور مادة خاصة بالموظفين تنظم مثل هذه الأمور، وتضع لهم اللوائح المنظِّمة للعمل.
وذكرنا أن الشيخ محمد عبده سأله بعض المستشرقين: تقولون في القرآن: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] فهات لي من القرآن: كم رغيفًا في إردب القمح؟ فما كان من الشيخ إلا أن أرسل لأحد الخبازين وسأله هذا السؤال فأجابه: في الإردب كذا رغيف. فاعترض السائل: أريد من القرآن.
فردَّ الشيخ: هذا من القرآن؛ لأنه يقول: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
فالأمر الذي يصدر فيه حكم من الله وحكم من رسول الله، كالصلاة مثلًا: {إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء: 103].
وفي الحديث: «الصلاة عماد الدين».
ففي مثل هذه المسألة نقول: أطيعوا الله والرسول؛ لأنهما متواردان على أمر واحد، فجاء الأمر بالطاعة واحدًا.
أما في مسائل عدد الركعات وما يُقَال في كل ركعة وكوْنها سِرًا أو جهرًا، كلها مسائل بيَّنها رسول الله. إذن: فهناك طاعة لله في إجمال التشريع أن الصلاة مفروضة، وهناك طاعة خاصة بالرسول في تفصيل هذا التشريع، لذلك يأتي الأمر مرتين {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [النور: 54].
كما نلحظ في القرآن: {وَأَطِيعُواْ الرسول} [النور: 56] هكذا فحسب.
قالوا: هذه في المسائل التي لم يَرِدْ فيها تشريع ونَصٌّ، فالرسول في هذه الحالة هو المشرِّع، وهذه من مميزات النبي صلى الله عليه وسلم عن جميع الرسل، فقد جاءوا جميعًا لاستقبال التشريع وتبليغه للناس، وكان صلى الله عليه وسلم هو الوحيد الذي فُوِّض من الله في التشريع.
ثم يقول تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ} [النور: 54] لأنه تعالى أعلم بحِرْص النبي على هداية القوم، وكيف أنه يجهد نفسه في دعوتهم، كما خاطبه في موضع آخر: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] وكأن الحق تبارك وتعالى يقول لنبيه: قُلْ لهم وادْعُهم مرة ثانية لتريح نفسك {قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [النور: 54] وإنْ كنت غير مكلَّف بالتكرار، فما عليك إلا البلاغ مرة واحدة.
ومعنى: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ} [النور: 54] أي: من الله تعالى، فالرسول حُمِّل الدعوة والبلاغ، وأنتم حُمِّلْتم الطاعة والأداء، فعليكم أن تُؤدُّوا ما كلَّفكم الله به.
{وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ} [النور: 54] نلحظ أن المفعول في {وَإِن تُطِيعُوهُ} [النور: 54] مفرد، فلم يقل: تطيعوهما، لتناسب صدر الآية {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [النور: 54] ذلك لأن الطاعة هنا غير منقسمة، بل هي طاعة واحدة.
وقوله: {وَمَا عَلَى الرسول} [النور: 54] تكليفًا من الله {إِلاَّ البلاغ المبين} [النور: 54] المحيط بكل تفصيلات المنهج التشريعي لتنظيم حركة الحياة. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ}.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله لو أمرتنا أن نخرج من أموالنا لخرجنا فأنزل الله {وأقسموا بالله جهد أيمانهم}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن} قال: ذلك من شأن الجهاد {قل لا تقسموا} قال: يأمرهم أن لا يحلفوا على شيء {طاعة معروفة} قال: أمرهم أن يكون منهم طاعة للنبي صلى الله عليه وسلم، من غير أن يقسموا.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد {طاعة معروفة} يقول قد عرفت طاعتكم أي أنكم تكذبون به.
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)}.
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {فإنما عليه ما حمل} فيبلغ ما أرسل به إليكم {وعليكم ما حملتم} قال: أن تطيعوه وتعملوا بما أمركم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الزبير عن جابر أنه سئل: إن كان على امام فاجر فلقيت معه أهل ضلالة أقاتل أم لا ليس بي حبه ولا مظاهرة؟ قال: قاتل أهل الضلالة أينما وجدتهم، وعلى الإِمام ما حمل وعليك ما حملت.
وأخرج البخاري في تاريخه عن وائل أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كان علينا أمراء يعملون بغير طاعة الله تعالى؟ فقال: «عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم».
وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم والترمذي وابن جرير في تهذيبه وابن مردويه عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال: قدم يزيد بن سلمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت إن كان علينا امراء يأخذوا منا الحق ولا يعطونا؟ فقال: «إنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم».
وأخرج ابن جرير وابن قانع والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي عن سلمة بن يزيد الجهني قال: قلت يا رسول الله أرأيت إن كان علينا أمراء من بعدك يأخذونا بالحق الذي علينا، ويمنعونا الحق الذي جعله الله لنا، نقاتلهم ونبغضهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم». اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}:
فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على المصدرِ بدلًا من اللفظِ بفعلِه إذ أَصْلُ أُقْسِمُ باللهِ جَهْدَ اليمين: أُقْسِمُ بجَهْدِ اليمينِ جَهْدًا، فَحُذِفَ الفعلُ وقُدِّمَ المصدرُ موضوعًا مَوْضِعَه مضافًا إلى المفعولِ ك {ضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4]، قاله الزمخشري. والثاني أنه حالٌ تقديرُه: مجتهدين في أَيْمانِهم كقولِهم: أفعَلْ ذلك جَهْدَك وطاقَتَك. وقد خلَطَ الزمخشري الوجهين فجعلهما وجهًا واحدًا فقال بعدَ ما قَدَّمْتُه عنه: وحكمُ هذا المنصوبِ حكمُ الحالِ كأنه قيل: جاهدين أَيْمانَهم. وقد تقدَّم الكلامُ على {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الآية: 53] في المائدة.
قوله: {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} في رفعِها ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: أمرُنا طاعةٌ أو المطلوبُ طاعةٌ. الثاني: أنها مبتدأٌ، والخبرُ محذوفٌ أي: أَمْثَلُ، أو أولى. وقد تقدَّمَ أنَّ الخبرَ متى كان في الأصلِ مصدرًا بدلًا من اللفظِ بفعلِه وَجَبَ حَذْفُ مبتدئِه كقولِه: {صَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] ولا يَبْرز إلاَّ اضطرارًا كقوله:
فقالَتْ على اسمِ اللهِ أَمرُك طاعةٌ ** وإنْ كُنْتُ قد كُلِّفتُ ما لم أُعَوَّدِ

على خلافٍ في ذلك. والثالث: أَنْ تكونَ فاعلةً بفعلٍ محذوفٍ أي: ولْتَكُنْ طاعةٌ ولْتُوْجَدْ طاعةٌ. واستُضْعِفَ ذلك: بأنَّ الفعلَ لا يُحْذَفُ إلاَّ إذا تَقَدَّم مُشْعِرٌ به كقوله: {يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ} [النور: 36]. في قراءةِ مَنْ بناه للمفعولِ أي: يُسَبِّحه رجالٌ أو يُجاب به نَفْيٌ كقولِكَ: بلى زيدٌ لمَنْ قال: لم يقم أحدٌ، أو استفهامٌ كقوله:
ألا هَلْ أتى أمَّ الحُوَيْرِثِ مُرْسَلٌ ** بلى خالد إنْ لم تُعِقْه العَوائقُ

والعامَّةُ على رفعِ {طاعةٌ} على ما تقدَّم. وزيد بن علي واليزيديُّ على نَصبِها بفعلٍ مضمرٍ، وهو الأصلُ. قال أبو البقاء: ولو قرئ بالنصبِ لكانَ جائزًا في العربية، وذلك على المصدرِ أي: أَطِيْعوا طاعةً وقولوا قولًا. وقد دَلَّ عليه قولُه تعالى بعدَها: {قُلْ أَطِيعُواْ الله}. قلت ما وَدَّ أن يُقرأَ به قد قرئ به كما تقدَّم نَقْلُه. وأمَّا قولُه: و{قُولُواْ قَوْلًا} فكأنه سَبَق لِسانُه إلى آية القتال وهي: {فأولى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} [محمد: 21] ولكن النصبَ هناك ممتنعٌ أو بعيدٌ.
قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ}:
يجوزُ أَنْ يكونَ ماضيًا، وتكون الواوُ ضميرَ الغائبين. ويكونُ في الكلام التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة. وحَسَّن الالتفاتَ هنا كونُه لم يواجِهْهم بالتَّوَلِّي والإِعراضِ، وأن يكونَ مضارعًا حُذِفَتْ إحدى تاءَيْه. والأصل: تَتَوَلَّوْا. ويُرَجَّحُ هذا قراءةُ البزيِّ بتشديدِ التاء: {فإنْ تَّوَلَّوْا} وإن كان بعضُهم يَسْتَضْعِفُها للجمعِ بينَ ساكنين على غيرِ حَدِّهما. ويُرَجِّحه أيضًا الخطابُ في قولِه: {وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ}. ودعوى الالتفاتِ من الغيبةِ إلى الخطابِ ثانيًا بعيدٌ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ}.
أقسموا بالله غاية اليمين، ووعدوا من أنفسهم الطاعة لو أمرهم بالخروج في المستقبل، فقال: لا تَعِدُوا بما هو معلومٌ منكم ألا تفوا به؛ فطاعةٌ في الوقت أَوْلى من تسويفٍ بالوعد.
ثم قال: قُلْ يا محمد أطيعوا الله وأطيعوا الرسول.. فإن أجابوا سَعِدُوا في الدارين، وأحسنوا إلى أنفسهم. وإنْ تَوَلّوْا عن الإجابة فما أَضَرُّوا إلا بأنفسهم ويكون الندم في المستقبل عليهم، وسوف يَلْقَوْنَ سوء عواقبهم، وليس على الرُسلِ إلا حُسْنُ البلاغ. ويومَ الحَشْرِ يُعْطَى كُلُّ أحدٍ كتابَه، ويُعامَلَ بمقتضى حساب نفسه. اهـ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.

.تفسير الآيات (55- 57):

قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما لاح بهذا الإذن في الكف عن قتل النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين لئلا يقول الناس: إن محمدًا استنصر بقوم، فلما نصره الله بهم أقبل يقتلهم.
فيمتنع من يسمع ذلك من الدخول في الإسلام، فتكون مفسدة قتلهم أعظم من مفسدة إبقائهم، لأن الدين لم يكن حينئذ تمكن تمكنًا لا يؤثر فيه مثل ذلك، تشوفت النفوس إلى أن هذا الحال هل يستمر؟ فجلى الله عنهما هذا الكرب بقوله: بيانًا لأن تمكن الدين غير مفتقر إليهم سواء أقبلوا أو أدبروا: {وعد الله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء {الذين آمنوا} وهو مع ذلك كالتعليل لما قبله ترغيبًا لمن نظر في الدنيا نوع نظر؛ وقيد بقوله: {منكم} تصريحًا بأهل القرن الأول، ليكون ظاهرًا فس إخراج المنافقين المتولين بالإعراض، إشارة إلى أنهم لا يزالون في ذل وضعة؛ وقدم هذا القيد اهتمامًا به لما ذكر بخلاف ما يأتي في سورة الفتح {وعملوا} تصديقًا لإيمانهم {الصالحات} من الإذعان للأحكام وغيرها، وأكد غاية التأكيد بلام القسم، لما عند أكثر الناس من الريب في ذلك فقال: {ليستخلفنهم في الأرض} أي أرض العرب والعجم، بأن يمد زمانهم، وينفذ أحكامهم {كما استخلف} أي طلب وأوجد خلافة بإيجادهم {الذين من قبلهم} أي من الأمم من بني إسرائيل وغيرهم من كل من حصلت له مكنة، وظفر على الأعداء بعد الضعف الشديد كما كتب في الزبور {أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} وكما قال موسى عليه السلام: {إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} {وليمكنن لهم} أي في الباطن والظاهر {دينهم} أضافة إليهم إشارة إلى رسوخ أقدامهم فيه وأنه أبديّ لا ينسخ {الذي ارتضى لهم} حتى يقيموا الحدود فيه من قتل وغيره على الشريف والوضيع سواء كان الواقعون في ذلك عصبة أم لا، لا يراعون أحدًا، ولا يخافون لومة لأئم، لأنه لا يضره إذ ذاك إدبارًا مدبر كما قال صلى الله عليه وسلم عن الحرورية كافة إنه إن أدركهم ليقتلنهم قتل عاد، بعد أن كف عن قتل رأسهم ونهى عن قتله- وهو واحد في غزوة حنين.